الكلام عن الصبر يطيب ، كيف لا وهو يبين لنا من خلاله معادن الناسِ ،
وقوة إيمانهم ، وصبرهم ورضاهم بما قسمه الله وقدره .
ولما رأيتُ الدهر يؤذن صرفه *** بتفريق ما بيني وبين الحبائب
رجعتُ إلى نفسي فوطنتها على *** ركوبِ جميل الصبر عند النوائب
ومن صحب الدنيا على سوء فعلها *** فأيامه محفوفة بالمصائب
فخذ خلسةً من كل يوم تعيشه *** وكن حذراً من كامنات العواقب
والله لو نطق الصبر لقال : هذه هي الصابرة ... لطالما وصفت المرأة
بالجزع والهلع ، لكن مع الإيمان ينتقل ذلك إلى صبرٍ ورضا ، امرأتنا هذه ،
لها مع الصبرِ شأن عجيب ، تقول إحدى الأخوات في رسالتها : هي قصة
لامرأة وقفت على فصولها ، هذه المرأة تزوجت ، وانتظرت أكثر من
عشرين عاماً ، تنتظر على إثر ذلك ريحانةً لقلبها ، تنتظر مولوداً يشنف
سمعها بلفظ الأمومة ، ولكن ، لم يقدر الله تعالى لها من ذلك الزوج أولاداً
، طلبت الانفصال عن هذا الزوج ، ، مع حبها الشديد له ، لكن عاطفة
الأمومة لديها سيالة ، انفصلت عن زوجها وتزوجت بآخر ، فوهبها المنعم
المتفضل بعد طول مدةٍ مولوداً ذكرا ، وفي أثناء حملها ، طلقها هذا الرجل ،
فوضعت حينها قرة عينها ، بعد طول ترقب وانتظار ، وحينها تقدم لها
الكثير من الخطاب ، ولكنها رفضتهم جميعاً لتربي ولدها ، عكفت على
تربيته ، لقد علقت فيه آمالها ، ورأت فيه بهجة الدنيا وزينتها ، انصرفت
إلى خدمته في ليلها ونهارها ، غذته بصحتها ، ونمته بهزالها ، وقوته
بضعفها ، كانت تخاف عليه من رقة النسيم ، وطنين الذباب ، كانت تؤثره
على نفسها بالغذاء والراحة ، أصبح هذا الولد قلبها النابض ، تعيش معه
وتأكل معه ، وتشرب معه ، تؤنسه ، تمازحه ، تنتظره وتودعه ، حين
يذهب في المجالس وبين الأقارب يحلوا لها الحديث بطرائفه ونوادره ، تهب
البشائر والأعطيات لكل من يبشرها بنجاحه أو قدومه من سفره ، ولما لا
وهو وحيدها وثمرة فؤادها .
تعد الأيام والشهور لترى فلذة كبدها يكبر رويداً رويدا .. كبر ذالك الطفل ،
وأصبح شاباً يافعا ، واستوى عوده ، واشتد عظمه ، كانت تقف أمامه
مزهوة شامخة ، كانت تجاهد على إعانته على الطاعة ، كيف لا ، وهي
كما تقول الأخت : عرفت منذ الصغر بطول قيامها وتهجدها ، لا تدخل
مجلساً إلا وتذكر الله وتنهى فيه عن فحش القول أو البذاءة ، وهي مع ذلك
من أهل الصلاة والصدقة ، لطالما تاقت نفسها أن تسمع صوت وحيدها يؤم
المصلين في المسجد الحرام ، لكم تمنت أن يجعل الله له شأن يعز به دينه ،
لقد كانت كثيراً ما تختلي بنفسها في أوقات الإجابة تدعو ربها ، وكم كان
اسمه يسيطر على دعائها .
لا تنامُ إلا بعد أن ينام ، ثم تقوم مرة أخرى وتدخل عليه لتعيد غطاءه ،
وتصلح حاله ، تفعل ذلك في الليلة الواحدة أكثر من مرة .
[i][b]الله أكبر ، مبلغ الحنانِ ومنتهاه ! أحسبُ أنكم تقولون كفى ، فقد أبلغتِ في
الوصف والثناء ، لستِ والله بمبالغة ، فهذه حالها مع ولدها .
عزمت على تزويجه ، لترى ولده وحفيدها ، بدأت تبحث له عن عروس ،
ثم سعت إلى تقسيم منزلها إلى قسمين ، العلوي له ، والسفلي لها ، دخلت
عليه في يوم من الأيام كالعادة ، نادته لم يرد عليها ، خفق قلبها ، رفعت
يده فسقطت من يدها ، هزته بقوة ، لم يتحرك ، بادرت بالاتصال على قريب
لها ، حضر على عجل ، فحمله إلى المستشفى ، أحست أن في الأمر شيئا ،
لكنها على أمل ، فماذا عملت ، لقد كان من أمرها عجبا !! توضأت ثم
يممت شطر سجادتها ، وسألت ربها أن يختار لها الخيرة المباركة ، وصلت
، وبعد سويعات ، وإذا وحيدها قد مات ، نعم ، بعد أربعين سنة ، عشرون
سنة ترقبه ، وأخرى مثلها تربيه ، ضاع ذالك في لحظة واحدة ، وما كان
منها حينما بلغها الخبر ، إلا أن قالت : وحيدي مات ، ثم استرجعت ، ثم
رددت كثيرا : الحمد لله ، الحمد لله ، الحمد لله.. ، تقولها بثبات وصبر ، لم
تندب ولم تصرخ ، ولم تشق جيباً أو تلطم خدا .
هذه هي ثمرة الإيمان تظهر في أشد المواقف وأصعبها وأحلكها ، كان وقع
الصدمة شديداً على كل من عرف ، بعض قريباتها يبكين أمامها ليس لفقد
الولد ، ولكن رأفةً بحالها ، كانت تنهاهن بحزم وهدوء ، وتقول بلهجتها :
ما هذا الخبال ، ربي أعطاني إياه ، أنا راضية والحمد لله أنها لم تكن في
ديني .
[/b][/i]